طرح موضوع إصلاح قانون الأحوال الشخصية بالمغرب منذ الاستقلال، حيث شكل عبر تاريخ المغرب الحديث تجسيدا لنموذج الدولة في المجال الديني والاجتماعي من خلال التعبير عن الاختيارات المجتمعية للدولة المغربية في مجالات الأسرة ونمط العلاقات التي تجمع بينها. وبما أن مسار تطور المجتمع المغربي يتقاسمه تياران رئيسيان الأول محافظ يدافع عن حصر النقاش ضمن الإطار الديني والثاني حداثي يدعو إلى إدماج قانون الأحوال الشخصية ضمن القانون المدني، فقد عرفت الساحة السياسية منذ أواخر تسعينات القرن الماضي وبداية الألفية الحالية تقاطبات حادة أدت إلى فشل الأطراف المتنافسة في التوصل إلى أرضية مشتركة. وفي محاولة للحفاظ على الحد الأدنى من التوازن الاجتماعي والسياسي أصدرت الحكومة المغربية سنة 2004 مدونة الأسرة التي شكلت تحولا كبيرا في منظور الدولة اتجاه المرأة والزواج والميراث وما يرتبط بها من مسائل اجتماعية وثقافية.
بعد انصراف عقدين من الزمن، لا يزال النقاش مطروحا بين جميع الأطراف حيث يعتبر إصلاح مدونة الأسرة قضية مركزية بالنسبة للجميع. فالتيار المحافظ معززا بفقهاء الدين ينحو نحو صيغة للمدونة مغلفة بالطابع الإسلامي وبالإطار الشرعي في حين يتجه التيار الحداثي معززا بثلة من المثقفين الحداثيين نحو صيغة للمدونة تندرج ضمن إطار القانون المدني على غرار باقي القوانين الأخرى دون تمييز.
لا بد من التذكير بأن الدولة المغربية حققت طفرة في التعامل مع قضايا الأحوال الشخصية والتي كانت نتيجة لتراكمات إصلاحية جعلت النقاش حول مدونة الأسرة متحررا من الطابع القدسي المغلف بالدين حيث دخل إلى مجال المطارحات والتداول المجتمعي وعلى صعيد المؤسسة التشريعية شأنه شأن باقي القوانين الأخرى، وهو الأمر الذي كرسه الفصل 71 من الدستور المغربي لسنة 2011 الذي وضع مدونة الأسرة ضمن مجالات القانون الخاضعة لاختصاص البرلمان في مجال التشريع. ولتكريس هذا النهج أصدر الديوان الملكي المغربي بلاغا في شتنبر 2023 يعلن فيه أن الملك بصفته “أمير المؤمنين” وجه رسالة إلى رئيس الحكومة يدعوه فيها إلى إعادة النظر في مدونة الأسرة، مع الالتزام بمبدأ “التشاور التشاركي الواسع” مع جميع الفاعلين المعنيين، سواء كانوا رسميين (مؤسسات الدولة) أو غير رسميين (فعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين). وقد أسند الإشراف العملي على إعداد هذا الإصلاح الهام، بشكل جماعي ومشترك، لكل من وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، وذلك بالنظر لمركزية الأبعاد القانونية والقضائية لهذا الموضوع. مع تكليف هذه المؤسسات بدعوة وإشراك الهيئات الأخرى المعنية بهذا الإصلاح، والتي في مقدمتها المجلس العلمي الأعلى باعتباره المؤسسة الدينية المكلفة بتقديم الفتاوى الدينية ذات “الطابع الاستشاري”، تتعزز فرضية التقدم في مسلسل إضفاء الطابع الوضعي على قانون الأسرة.
تراهن الحركة الحقوقية على إجراء تعديلات شاملة في مدونة الأسرة تمس قضايا الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للمواطنات والمواطنين، وتعتبر آلية التقارير الموازية المقدمة للهيئات الأممية (بمناسبة الاستعراض الدوري الشامل أو انعقاد الهيئات التعاهدية) سلاحا أساسيا لمنظمات المجتمع المدني من أجل الترافع في المستوى الدولي عن تحقيق مطلب المساواة الكاملة بين النساء والرجال سواء على مستوى الولاية أو اقتسام أموال التركة أو المسؤوليات المشتركة للزوجين، وكانت هاته المطالب تلاقي قبول كبير من طرف المنتظم الدولي الذي تبناها في مخرجاته المقدمة للدولة المغربية من أجل دعم مسلسل الإصلاح التشريعي لنظام الأسرة والمرأة. في حين تعكس المقاومة الشديدة لإصلاح مدونة الأسرة من قبل الشخصيات الدينية والمحافظة ديناميات القوة الكامنة داخل المجتمع المغربي، فرغم استجابة الفاعل الرسمي لمطالب النشطاء ووضع التحديث قيد التنفيذ إلا انه يبدو أن محاولة تحديث البنى الفوقية وإضفاء الطابع العصري عليها لا يسير في نفس الخط مع واقع البنى التحتية والقاعدية، إذ لا تزال القوى المحافظة تدافع عن موقعها ووظيفتها القيادية للمجتمع.
إن ما يجب استحضاره بقوة هو أن إشكالية إصلاح مدونة الأسرة لا ترتبط بالمدخل التشريعي فقط، بل هي إشكالية تتصل كذلك بالجوانب الثقافية والسياسية، فإذا أخذنا بالاعتبار الطابع المحافظ للبنية الاجتماعية المغربية، فإن النظام السياسي نفسه لا يزال “يعتنق” بعض العناصر المحافظة والتقليدية تضمن بعضها الدستور المغربي لسنة 2011، كما أنه باستحضار الثوابت التقليدية للنسق السياسي، والمتمثلة في الدين الإسلامي بمحدداته الثلاث (المذهب المالكي، العقيدة الأشعرية وطريقة الجنيد السالك) وإمارة المؤمنين التي تعتبر مؤسسة محورية في الحياة السياسية المغربية ثم البيعة الشرعية التي من مقتضياتها “حماية الملة والدين”، فإنه يمكن القول أن سقف تعديل مدونة الأسرة لن يذهب بعيدا، ولن يساير كثيرا رهانات الحركة المدنية الوطنية والدولية. ولتأكيد هذا التوجه، سبق للملك في خطاب العرش لسنة 2022 أن حدد الإطار العام للتعديلات المرتقبة لمدونة الأسرة بالقول “لن أحل ما حرم الله ولن أحرم ما أحل الله…”، وهو ما يعني تضييق المساحات المتاحة أمام اللجنة المكلفة بصياغة مسودة التعديل، ومثلها مؤسسة البرلمان المفترض فيها أن تصادق على تلك المسودة، فالخطابات الملكية بالمغرب تتمتع بقيمة معنوية كبيرة من الصعب على الفاعل العمومي تجاوزها أو تخطيها.
تظل قضية إصلاح مدونة الأسرة مرهونة في الوقت الحالي بهذا الأفق، وما من شك أن الإصلاح سيبقى خاضعا لمبدأ التراكم والتدرج بما ينسجم مع طبيعة البنى الاجتماعية والثقافية السائدة. وبما أن قضية إصلاح المدونة تهم جميع شرائح المجتمع المغربي ولا تقتصر أثارها على الأسرة فقط، بل تمتد لتشمل جوانب الحياة العامة للشعب المغربي، ينبغي على جميع الفاعلين السياسيين والمدنيين ألا يجعلوها ساحة للتوتر والاستقطاب والصراع بل مجالا للنقاش الهادئ والمطارحات العلمية والفقهية الرصينة بما يخدم التدافع البناء.
