تكشف معطيات الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024 عن تحولات ديموغرافية عميقة تُعيد تشكيل نسيج المجتمع المغربي، حيث تدق ساعة التحول الديموغرافي معلنةً مرحلة جديدة في تاريخ البلاد. هذه التحولات التي حظيت باهتمام جلالة الملك محمد السادس، تضع صناع السياسات أمام مسؤولية تاريخية للاستجابة لهذه المتغيرات الجذرية.
شهد المغرب خلال العقود الأخيرة تباطؤاً واضحاً في وتيرة النمو السكاني، حيث تراجع المعدل من 2.6% خلال الستينيات إلى 0.85% في الوقت الراهن، مع توقعات بأن يصل إلى 0.6% بحلول عام 2040. ورغم هذا التباطؤ، فإن العدد الإجمالي للسكان سيستمر في الارتفاع من 36.8 مليون نسمة حالياً إلى 40.5 مليون نسمة في أفق 2040، مما سيولد ضغوطاً متصاعدة على الخدمات الاجتماعية والبنيات التحتية، ويتطلب استثمارات إضافية لمواكبة هذه الدينامية.
ويبرز التحول الأبرز في البنية العمرية للسكان، حيث تشير المعطيات إلى تراجع ملحوظ في أعداد الشباب، مع انخفاض حصة الأطفال دون 15 سنة من 26.5% إلى 19.2% بين 2024 و2040. وفي المقابل، تتجه البلاد نحو مجتمع متقدم في السن، حيث من المتوقع أن ترتفع نسبة السكان فوق 60 سنة من 13.8% إلى 19.5%، مما يضع نظم التقاعد والحماية الاجتماعية على المحك، ويستدعي إعادة نظر شاملة في سياسات الرعاية الصحية والاجتماعية.
وتفتح هذه التحولات “نافذة فرصة ديموغرافية” مع ارتفاع عدد السكان في سن العمل (15-59 سنة) من 22.1 إلى 24.8 مليون نسمة بين 2024 و2040. إلا أن هذه الفرصة المؤقتة التي بدأت مطلع الألفية وتنتهي حوالي 2038، تتطلب استثماراً استراتيجياً في تعميم التعليم ذي الجودة، وتحفيز خلق فرص الشغل، وإصلاحات اقتصادية هيكلية تمكن من تحويل هذه الميزة الديموغرافية إلى محرك للنمو الاقتصادي.
وتمثل دينامية التحضر أحد أبرز ملامح هذا التحول، حيث يرتفع معدل التمدن من 62.8% إلى 69.2% متوقعاً بحلول 2040، مما يستلزم بناء حوالي 3 ملايين وحدة سكنية إضافية، وتأهيل المجالات الحضرية، وتقليص الفوارق المجالية التي حذر منها جلالة الملك. كما تشهد الأسر المغربية تحولاً جوهرياً مع نمو عددها من 9.26 إلى 12.3 مليون أسرة، وتقلص حجمها المتوسط من 3.9 إلى 3.3 أفراد، مما يعكس تحولات عميقة في السلوكيات العائلية وأنماط العيش.
وفي سياق متصل، يشهد المغرب تحولاً في أنماط الهجرة، من بلد مصدر للمهاجرين إلى بلد مستقبل، حيث ارتفع عدد الأجانب المقيمين به بنسبة 76.2% بين 2014 و2024، مما يستدعي بلورة سياسة وطنية للهجرة تركز على إدماج هذه الفئات عبر سوق العمل.
تشكل هذه التحولات الديموغرافية المتسارعة منعطفاً حاسماً في مسار التنمية بالمغرب، يتطلب تبني رؤية استباقية شاملة تجعل من المتغير الديموغرافي محوراً أساسياً في تصميم السياسات العمومية، مع التركيز على تعزيز الرأسمال البشري، وتحسين جودة التعليم، وخلق فرص الشغل المنتجة، وتقوية التماسك الاجتماعي، لتحويل التحديات الديموغرافية إلى رافعة حقيقية لتحقيق التنمية المستدامة المنشودة.
