الجهوية المتقدمة في المغرب تُعد نموذجًا للتنظيم الإداري يهدف إلى تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على المستوى الجهوي، وتقليص الفوارق بين المجالات. وقد تم تكريس هذا التوجه في دستور 2011، حيث خُصص الباب التاسع للجهات والجماعات الترابية الأخرى، مما يعكس إرادة المشرع في تعزيز اللامركزية وتطوير الحكامة الترابية.
وقد منح دستور 2011 الجهات مكانة متميزة، حيث نص على مبادئ التدبير الحر والتعاون والتضامن بين الجماعات الترابية، مع التأكيد على مشاركة السكان في تدبير شؤونهم المحلية. كما أقر الدستور بمبدأ التفريع، الذي يحدد توزيع الاختصاصات بين الدولة والجماعات الترابية، مع منح الجهات اختصاصات ذاتية ومشتركة ومنقولة.
تعتبر الجهة المستوى الأساسي في التخطيط الترابي المغربي وفقًا لمقتضيات دستور 2011 والقوانين التنظيمية المؤطرة للجهوية المتقدمة. وتُعد الفاعل الرئيسي في تنسيق السياسات التنموية وضمان الالتقائية بين الاستراتيجيات الوطنية والمحلية.
الجهة فاعل رئيسي في التخطيط الترابي:
- تلعب الجهة دورًا محوريًا في إعداد وتنفيذ وتتبع التخطيط التنموي الترابي وفقًا لرؤية مجالية مندمجة ومستدامة.
- تضمن التفاعل بين التخطيط الوطني (استراتيجيات الدولة) والتخطيط المحلي (برامج الجماعات الترابية).
- ترتكز على مبدأ التدبير الحر، حيث تتمتع باستقلال مالي وإداري في تدبير شؤونها الترابية.
الأدوات القانونية للتخطيط الجهوي
تعتمد الجهة على أدوات تخطيطية قانونية رئيسية، أبرزها:
- التصميم الجهوي لإعداد التراب (SRAT – Schéma Régional d’Aménagement du Territoire)
- وثيقة مرجعية تحدد التوجهات الاستراتيجية لتنمية الجهة على المدى المتوسط والطويل.
- تضمن تنسيق مختلف الاستراتيجيات القطاعية وضمان الانسجام بين المشاريع الكبرى.
- برنامج التنمية الجهوية (PDR – Plan de Développement Régional)
- يحدد الأولويات التنموية للجهة وفقًا لخصوصياتها ومواردها.
- يتضمن مشاريع وبرامج قابلة للتنفيذ، يتم تمويلها من الميزانية الجهوية أو عبر شراكات.
الجهة كجسر بين التخطيط المركزي والمحلي
- تلعب الجهة دور الوسيط بين الدولة والجماعات الترابية الأخرى، حيث تعمل على:
- تنسيق تدخلات القطاعات الوزارية على المستوى الجهوي.
- ضمان الالتقائية بين البرامج الوطنية والمجالية.
- دعم الجماعات المحلية في التخطيط والتنفيذ والتقييم.
تحديات التخطيط الجهوي
رغم هذا الدور المحوري، تواجه الجهة عدة تحديات، منها:
- تأخر نقل الاختصاصات الفعلية من الدولة إلى الجهات.
- ضعف الموارد المالية والبشرية المخصصة لتنفيذ المشاريع التنموية.
- صعوبة تحقيق الالتقائية بين مختلف الفاعلين الحكوميين والجهويين والمحليين.
- الحاجة إلى تعزيز الرقمنة والابتكار في إعداد وتتبع المخططات الترابية.
وقد أصدر المجلس الأعلى للحسابات تقريرًا موضوعاتيًا حول تفعيل الجهوية المتقدمة، مسلطًا الضوء على التقدم المحرز والتحديات القائمة في هذا المجال. ومن أبرز الملاحظات التي جاءت في التقرير:
- الإطار القانوني والمؤسساتي:
- تأخر في استكمال النصوص التنظيمية: لم يتم بعد اعتماد جميع النصوص القانونية والتنظيمية اللازمة لتفعيل الجهوية المتقدمة، مما يعيق التنفيذ الكامل لهذا الورش.
- بطء في تفعيل اللامركزية الإدارية: رغم اعتماد الميثاق الوطني للاتمركز الإداري، إلا أن وتيرة تنفيذه لا تزال بطيئة، مما يؤثر على فعالية الجهوية المتقدمة.
- الآليات والموارد:
- نقص في الموارد البشرية المؤهلة: تعاني الجهات من نقص في الكفاءات البشرية اللازمة لتدبير الشأن الجهوي بكفاءة.
- تفاوت في تخصيص الموارد المالية: هناك تفاوت بين الجهات في تخصيص الموارد المالية، مما يؤدي إلى فوارق في تنفيذ المشاريع التنموية.
- ممارسة الاختصاصات:
- تأخر في نقل الاختصاصات: لم يتم بعد نقل جميع الاختصاصات الذاتية والمشتركة والمنقولة إلى الجهات، مما يحد من قدرتها على تنفيذ مهامها.
- غياب إطار تنظيمي للاختصاصات المشتركة: لم يتم بعد وضع إطار تنظيمي يحدد كيفية ممارسة الاختصاصات المشتركة بين الدولة والجهات.
التوصيات الرئيسية:
- استكمال الإطار القانوني:
- الإسراع في اعتماد النصوص القانونية والتنظيمية المتبقية لتفعيل الجهوية المتقدمة.
- تفعيل اللامركزية الإدارية:
- تسريع تنفيذ الميثاق الوطني للاتمركز الإداري لضمان توزيع متوازن للسلطات بين المركز والجهات.
- تعزيز القدرات البشرية والمالية:
- توفير الموارد البشرية المؤهلة واللازمة للجهات.
- ضمان توزيع عادل للموارد المالية بين الجهات لتقليص الفوارق المجالية.
- نقل الاختصاصات:
- تسريع عملية نقل الاختصاصات الذاتية والمشتركة والمنقولة إلى الجهات.
- وضع إطار تنظيمي يحدد كيفية ممارسة الاختصاصات المشتركة بين الدولة والجهات.
وقد عقدت المناظرة الوطنية الأولى للجهوية المتقدمة يومي 20 و21 ديسمبر 2019 بمدينة أكادير، بمشاركة ممثلين عن الحكومة، والجهات، والمنتخبين، والخبراء، ومختلف الفاعلين المعنيين. بعد خمس سنوات عُقدت المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة يومي 20 و21 ديسمبر 2024 في مدينة طنجة، تحت شعار “الجهوية المتقدمة بين تحديات اليوم والغد.
مقارنة بين توصيات المناظرة الوطنية الأولى والثانية للجهوية المتقدمة بالمغرب:
|
توصيات المناظرة الوطنية الثانية (2024 – طنجة) |
توصيات المناظرة الوطنية الأولى
(2019 – أكادير) |
المجال |
| تسريع تنزيل ميثاق اللاتمركز الإداري وضمان توزيع متوازن للسلطات بين الدولة والجهات. | تسريع نقل الاختصاصات من الدولة إلى الجهات مع توفير الموارد البشرية والمالية اللازمة. | نقل الاختصاصات |
| الرفع من الموارد المالية المحولة للجهات، ومواكبتها في الاستعمال الناجع لرافعة الاقتراض. | تعزيز تمويل الجهات عبر تحسين الولوج إلى التمويل وتنويع مصادر الدخل. | تمويل الجهات |
| توحيد التخطيط بين البرامج الوطنية والجهوية مع مراعاة خصوصيات كل جهة. | تعزيز الالتقائية بين السياسات العمومية الجهوية والوطنية لتحقيق تنمية متكاملة. | التنسيق بين الفاعلين |
| تقوية قدرات الفاعلين الترابيين لمواجهة تحديات التنمية الترابية المندمجة والمستدامة. | تطوير آليات الحكامة بين الدولة والجهات لضمان تنفيذ المشاريع بكفاءة. | الحكامة والتدبير |
| تفعيل آليات تشاركية للحوار والتشاور لضمان مساهمة المواطنات والجمعيات في إعداد وتتبع برامج التنمية الجهوية. | إشراك المجتمع المدني والقطاع الخاص في بلورة وتنفيذ البرامج التنموية الجهوية. | مشاركة المجتمع المدني |
| تطوير آليات تتبع وتقييم أداء الفاعلين الترابيين لتجويد الخدمات المقدمة من قبل الجهات. | تعزيز آليات التقييم والمراقبة لضمان شفافية التدبير الجهوي وحسن تنفيذ المشاريع. | التقييم والمراقبة |
| تعزيز التحول الرقمي كرافعة لترسيخ الحكامة الترابية وتعزيز المشاركة المواطنة. | دعم الرقمنة والتكنولوجيا الحديثة في تدبير شؤون الجهات لتعزيز الشفافية والفعالية. | الرقمنة والتحول الرقمي |
| وضع استراتيجيات جهوية للنجاعة المائية وتسريع إنجاز مشاريع تدبير الإجهاد المائي. | لم يتم التركيز عليها بشكل مباشر. | التحديات البيئية |
| تطوير منظومة النقل والتنقل المستدامين، وخلق أنماط حكامة جديدة (مثل شركات متعددة الخدمات). | لم يتم التركيز عليه كملف مستقل. |
النقل والتنقل |
لقد ركزت المناظرة الأولى على التأسيس العام للجهوية المتقدمة، من خلال الحديث عن نقل الاختصاصات، التمويل، الحكامة، والرقمنة في حين وسعت المناظرة الثانية النقاش ليشمل ملفات متخصصة ومستجدة مثل تحديات التمويل، إدارة الموارد المائية، النقل والتنقل، والتحول الرقمي. لكن إذا كان التوجه العام يظهر انتقالًا من مرحلة التأسيس والتخطيط (2019) إلى مرحلة التفعيل والتقييم (2024) فإن تمرين تنزيل الجهوية المتقدمة على ما يبدو بعد على مرور خمس سنوات بين مناظرتين لا زال لم يتزحزح عن مكانه بالرغم من أن الجهة تمثل حجر الزاوية في التخطيط الترابي المغربي، حيث تجمع بين الرؤية الاستراتيجية للدولة والتدبير المحلي للجماعات، لكنها تحتاج إلى مزيد من الدعم والتمكين المالي والمؤسساتي لتحقيق التنمية المتوازنة والمستدامة وبالتالي كثيرا من التغيير في نمط الحكامة الذي يؤطر لكيفية التعاطي مع هذا الورش الكبير.
